مُلَخَّصٌ
يجمع النموذج النبوي للذكاء أو العقل بين الذكاء الأخلاقي و الذكاء العاطفي. إن التربية الأخلاقية الكاملة تسعى إلى تحسين الهوية الأخلاقية من خلال التركيز على خمسة مجالات: (1) ضبط البوصلة الأخلاقية؛ (2) معايرة الحساسية الأخلاقية؛ (3) الالتزام الأخلاقي؛ (4) المصداقية الأخلاقية، (5) القدرة على حل المشاكل الأخلاقية، وتجتمع هذه المجالات الخمسة لتصيغ الفطنة الأخلاقية الكاملة. أما الحياء، فهو يعتبر – بسبب ارتباطه الوثيق بالهوية – معدِّل للسلوك الإيجابي، على الرغم مما يلاقي من انتقادات. هذا المقال يدافع عن وسطية الحياء ويفسر سبب كون الحياء الناضج والمبرر عاطفة إيجابية يتسم بها الأفراد والمجتمعات، ثم يسلط الضوء على النتائج السلبية للازدواجية الفردية والمجتمعية في إطار الهوية الأخلاقية للمرء.
مقدمة
إنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ… وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَا
في فرنسا، قبل أيام من كتابتي هذا المقال، حُرمت امرأة جزائرية من الجنسية الفرنسية بسبب هويتها الأخلاقية، فقد رفضت مصافحة رجل غريب بسبب هويتها الدينية، لهذا حرمت “امتياز” الحصول على الهوية الفرنسية. لماذا يشعر بلد يحمل علم القيم الليبرالية والتنوير بالحاجة إلى سن أحكام وقيم أخلاقية؟ لا ريب أن التحولات المجتمعية “التدريجية” و “التعددية” الأوسع نطاقاً قد ألقت خطافاً يسارياً مميتاً على النموذج النبوي للذكاء الأخلاقي وعلى هويتنا الدينية؛ وعلى الرغم من أن أقدامنا لم تعد قادرة على أن تحملنا إلا أننا لن نحتاج حبلا للاتكاء عليه، حتى نبلغ مبتغانا.
خلال السنوات القليلة الماضية، ازداد اهتمامي بدراسة الاتجاهات الرئيسية والتحولات المجتمعية للفكر بشأن الأخلاقيات والتي حدثت خلال القرنين الماضيين. وأفضل ما يبين قصدي من هذا المقال هو قول أحد الشعراء العرب:
عرفت الشر لا للشر…. ولكن لتوقيه
فالهدف يكمن في وقاية نفسي والآخرين من التوجهات الفكرية والثقافية التي تنخر مجتمعنا وتقضي على أسس الإيمان، وذلك بأن أعرض النقاش التالي حول جانب أساسي للغاية لهويتنا الدينية والتهديدات التي تواجهها، علينا ألا نستسلم لليأس، إذا جاز التعبير، بسبب الطبيعة العدوانية لهذه الهجمات، بل يجب علينا أن نتوخى الحذر منها، وأن ندرس عن كثب أسلوب خصومنا وأن نواجههم بناء على ذلك. وستكون جريمتنا هى دفاعنا الأفضل كما هو موضح في كتاب “فن الحرب”. إذا ما نظرنا إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ورسائل أنبياء الله الآخرين، فسنرى أن إحدى المهام – وربما كانت المهمة الأساسية – التي جاءوا من أجلها هي بناء مجتمعاتهم، من الناحية الأخلاقية الفردية والجماعية.
التربية الأخلاقية والهوية الأخلاقية
في كثير من الأحيان، يشار إلى الفترة الزمنية التي تسبق مجيء أي رسول أو فترة زمنية بين رسولين بأنها فترة الجهل؛ بسبب غياب الفطنة الأخلاقية الربانية. وفي تقديري، ينتج الالتباس الحالي القابع في قلوب وعقول العديد من المسلمين حول العالم من الافتقار إلى التربية الأخلاقية. وبوجه عام، عندما نتحدث عن النموذج النبوي للعقل أو الذكاء ، فنحن نتحدث عن الذكاء الأخلاقي والعاطفي الذي ألهمنا الله به. والتربية الأخلاقية ترمي إلى زيادة الثبات الأخلاقي للمسلمين حول ما سأطلق عليه “إطار الذكاء الأخلاقي”. هذا الإطار يتألف من خمسة مجالات جوهرية للتربية الأخلاقية: (1) ضبط البوصلة الأخلاقية؛ (2) معايرة الحساسية الأخلاقية؛ (3) الالتزام الأخلاقي؛ (4) المصداقية الأخلاقية، (5) القدرة على حل المشاكل الأخلاقية، فكل من هذه المجالات هو حيوي للهوية الأخلاقية والدينية الفردية والجماعية. وإذا ما استعرضنا الأحاديث النبوية [1] التي تتحدث عن قيام الساعة، سنرى أن العنصر الأساسي الذي يغفل عنه المسلمون – ورجال الدين بشكل عام – هو حقهم في هويتهم الأخلاقية.
تتبلور الحساسية الأخلاقية في تحذير العقل بحيادية عن المسار الصحيح. في الآونة الأخيرة، استأجرت سيارة تويوتا كامري، وأثناء القيادة، فوجئت على حين غرة بأن السيارة أعادت محاذاة عجلة التوجيه آليًا فبدأت أخرج عن المسار المخصص لي، وأتذكر أنه عندما بدأت ظهور هذا الخاصية للمرة الأولى في السيارات، كانت السيارة تحذر السائق من خلال صوت بأنه يحيد عن المسار المخصص. الآن، وقد وصلنا إلى مرحلة التي لا يقتصر عندها قيام سيارات السيدان الأساسية بضبط عجلة التوجيه فحسب، بل يمكن للسيارات الفخمة أن تقودك إلى العمل أو المدرسة دون الحاجة إلى القيام بأي شيء على الإطلاق. يمكننا تشبيه الحساسية الأخلاقية بصوت التنبيه المزعج الذي يحذرك بأنك تقوم بشيء خاطئ، وحري بنا أن نفهم أيضًا أن هذه الإشعارات التحذيرية وأنظمة ضبط عجلة التوجيه لا يمكن أن تعمل إلا إذا كان الحاسب الآلي يدير أسلوب التوجيه بصورة فائقة الدقة. فنظام الضبط يعمل لأنه يفترض أن القيادة داخل مسار واحد أمر مثالي وأن الحياد عن المسار المخصص خطأ وربما يكون ضارَا ومؤذيًاِ. في الواقع، حتى إن قدرتنا على القيادة اليدوية من وإلى العمل تتوقف على اتفاق والتزام جماعيين بمجموعة من المبادئ المشتركة، مثل التوقف عند إصدار الأضواء الحمراء والاتجاه يمينًا عند اللون الأحمر وغير ذلك من قوانين ولوائح السير الشائعة. عندما يقوم شخص ما بتغيير المسار دون استخدام إشاراته، فإننا نشعر بالضيق لأنه انتهك المبادئ المشتركة؛ وبالتالي، فإننا نطلق أبواق سياراتنا. وأعتقد أننا جميعًا يمكننا أن نتفق على أن جميع الأنظمة تعمل بسلاسة لأن كل مكون من مكونات النظام يتشارك نفس الافتراضات. هذا هو السبب في أننا نشعر بالانزعاج عند مخالفة هذه القواعد.
ترتبط الحساسية الأخلاقية ارتباطًا وثيقًا بالتعبيرات الأخلاقية المتاحة أمام المرء، وتشمل قائمة المصطلحات المرتبطة بالتوافق الأخلاقي: صريح،غير مدعي، كريم، مخلص، أمين، مراعِ لشعور الآخرين، جدير بالثقة، متواضع، شجاع، صادق، نقي، يقظ الضمير. أمّا قائمة المصطلحات التي تشير إلى الاستنكار الأخلاقي فهي تشمل: فاسد، قاسِ، غادر، حسود، تافه، منافق، أناني، جشِع، جبان، متزلِف. وهذه المصطلحات تتوفر حسب اللغة والتقاليد والثقافة. تنطوي التربية الأخلاقية السليمة على تعليم المرء المصطلح الأخلاقي الواجب استخدامه حسب كل موقف على حدة، وعندما يستطيع المرء استخدام هذه التعبيرات في المواقف التي يواجهها وحتى مع نفسه، تكون تربيته الأخلاقية كاملة حينئذ. وعندما يتعلم المرء معاني هذه التعبيرات ثم يتعلم التصرفات المرتبطة بها، فإنه بذلك سيطور هويته الأخلاقيه ، أو بعبارة أخرى، النموذج الأخلاقي ، قد يبلغه أو لا يبلغه، ولكنه – مع ذلك – لا يزال مثاليًا.
التناقض والهوية الأخلاقية
يعرّف زيجمونت باومان معنى الجهل الأخلاقي في كتابه “الحداثة والتناقض” بأنه حالة من التناقض الثقافي. إنه يقول ببساطة إن التناقض عبارة عن اضطراب لغوي لا نستطيع من خلاله تسمية الأشياء. فيقول ” هي إمكانية تعيين موضوع أو حدث لأكثر من فئة واحدة.” [2] فعلى سبيل المثال، إذا كنت تعلّم طفل صغير كلمات أساسية، مثل “هذا كبير” أو “هذا صغير”، فأنت تعلّم الطفل كلمة يمكن استخدامها في المستقبل لتصنيف أشياء مختلفة أو الفصل أو التمييز بينها. وبالمثل، فإن عبارة “هذا حيوان” تضع أمام عقل الطفل صندوقًا ذهنيًا يمكن وضع الحيوانات الأخرى فيه. يقول باومان إنه من الطبيعي والعادي أن نشعر بالقلق عند مواجهة التناقض. وفي تقديري، يرجع سبب ذلك إلى أن البشر لديهم قدرة فطرية ربانية على معرفة العالم من حولهم وأنهم يمكنهم التعلم أكثر من هذا العالم. استهل القرآن الكريم بقصة خلق آدم وما علمه الله إياه، إذ يخبرنا أن آدم تعلم “الأسماء كلها”[3]، مما يبين لنا أنه مُنح القدرة الأساسية لتصنيف العالم ومن ثم تعلم من ذلك العالم. وربما تشير هذه الآية إلى أن قدرة البشر على معرفة الأشياء وتسميتها، ومن ثم تصنيفها، إنما تشكل السمة المميزة للقدرة الفكرية البشرية ودور العقل في ذلك. إن مشكلة الحداثة، حسب باومان، تكمن في أننا تحولنا إلى حالة من التناقض الجماعي، فكلمات مثل سخي، مخلص، شريف، مراعِ لشعور الآخرين، جدير بالثقة، متواضع، شجاع، صادق، مهذب، نقي، جميعها لا تستطيع تصنيف التصرفات والسلوكيات، وبالتالي فإنها تؤدي إلى الفوضى، أو حسب قوله “الوجه الأخر للترتيب”. بالنسبة للطفل، فالكلمات تحمل معانِ، لكن بالنسبة إلى عقل ما بعد الحداثة المستنيرة، فالكلمات لا تعني أي شيء.
الهوية الأخلاقية والحياء: وجهان لعملة واحدة
بمجرد تشكيل مُثلِ أخلاقية في عقل شخص ما، فإن أي إخفاق لاحق في تحقيق المُثل ينتج بشكل طبيعي شعورًا بالحياء في داخله. إن الحياء الناضج والمبرر يؤدي دورًا إيجابيًا مُهمًا للشخص الذي يشعر به ويشغل موضعًا مركزيًا في المجال الأخلاقي للفرد، وبالتالي، المجتمع الأوسع نطاقًا. في حديث للنبي ﷺ، فقد وصف الحياء بأنه أحد الخصائص الأكثر تمييزًا للإسلام.
عن مَالِكٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سَلَمَةَ الزُّرَقِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ. وَخُلُقُ الْإِسْلاَمِ الْحَيَاء[4]
هناك رواية أخرى نُسبت إلى النبي سليمان (عليه الصلاة والسلام) تُعرِّف الحياء بأنه “نظام الإيمان”، مما يوحي بأن افتقار المرء للحياء يطمس هويته الدينية. [5]
إن الدور الجوهري للحياء في إطار الفطنة الأخلاقية ثبت من حيث ارتباطه بالهوية بشكل وثيق، فالشعور بالحياء يبدأ عندما يشعر المرء أنه أخفق في تحقيق هدفه المثالي، ويجبر الشخص على إعادة النظر في هويته الأخلاقية وإعادة النظر في قربه من تلك المُثل الأخلاقية وتنذر بضعف شخصيته الأخلاقية. حتى أن الطبيعة التصحيحية القوية للحياء على السلوك دفعت بعض الأكاديميين إلى القول بأن القانون الأميركي الحديث يجب أن يستخدم الحياء بدلاً من السجن. [6] والإسلام، كونه ديناً يُعني بتكوين ثقافة المعرفة بالله، يجعل من الحياء سمة مميزة للإسلام، فقد قال النبي ﷺ “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”. ووفقًا ل وليامز، تكمن مشكلة الحياء في أنه عاطفة اجتماعية بالغة وهو ما يعني الاعتماد إلى حد بعيد على بيئة المرء، [7] فالحياء – حسب تعريفه – يجعل الشخص ضحية لتقاليد وأعراف البيئة التي نشأ فيها، أليس ذلك ينكر الفائدة المحتملة من الحياء؟ لقد دفع اعتماد الحياء على النظرة العامة الكثير من الناس إلى الشعور بذلك، لأنه يعتمد بدرجة كبيرة على المجتمع ليعطي الأولوية في الإطار الأخلاقي الفردي، فكثير ما يشعر الناس بالحياء من أشياء لا يجب أن يشعروا بالحياء منها، ولكن فقط بسبب المعايير الأخلاقية الجماعية العامة للمجتمع الذي يعيشون فيه. وربما تشعر الأقليات والنساء وذو الإعاقة والخدام بالحياء بشكل غير مبرر، وهو ما يمثل نتاج روح الثقافة التي يعيشون في ظلها. وبعبارة أخرى، فإن الحياء بعيد كل البعد عن كونه مؤشراً جيداً للشخصية الأخلاقية. يعتقد أنصار هذه الحجة أن الأخلاق الحقيقية يجب أن تكون أكثر استقلالية، أي قادمة من داخل المرء. وقبل أن انتقد هذا الرأي، تجدر الإشارة إلى أن التعريف الإسلامي للحياء في إطار الفطنة الأخلاقية النبوية تعريف معقد ويتألف من ثلاثة أوجه.
يوضح الإمام الماوردي في كتابه “أدب الدين والدنيا” أن هناك ثلاثة أوجه للحياء يمكن وجودها في أي شخص، أحدها: حياء المرء من الله تعالى. وهذا ما يؤيد الرواية التي حث فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الحياء، حيث قال “استحيوا من الله حق الحياء. فقال الصحابة “يا رسول الله، كيف نستحي من الله تعالى حق الحياة”. قال “أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى..”[8] والوجه الثاني: الحياء الاجتماعي، أو حياء المرء من الناس، كما وصفه الماوردي، والوجه الثالث: حياء المرء من نفسه. يمكن النظر إلى الوجهين الأول والثالث للحياء من منظور واحد على أنهما غير معنيين بالبيئة المحيطة بالمرء، وبالتالي فهما لا يمثلان بالضرورة مشاعر اجتماعية. وقد تم شرح هذا الموقف والدفاع عنه بشكل جيد من قِبل شيشاير كالهون وجينيفر سي . مانيون[9]، في دفاعهم عن القيمة الإيجابية للحياء الأخلاقي. حيث يوضح كالهون أن الحياء الأخلاقي الناضج أو المبرر لن يشعر المرء به إلا عندما يلاقي المرء انتقادًا من أشخاص يحترمهم ويقدّرهم، [10] السبب وراء شعورنا بالحياء من أناس معينين هو أننا متوافقون معهم في نفس المعيار الأخلاقي الذي اخترناه بأنفسنا وإرادتنا المطلقة، والقوة التي نمنحها للآخرين ليشعِرونا بالحياء هي انعكاس لمعاييرنا التي نتشاركها معهم. وبالمثل، يمكننا تحجيم المنظور الأخلاقي لبعض الناس لدرجة أننا لا نتأثر على الإطلاق بانتقاداتهم أو لومهم؛ وهذه علامة على النضج الأخلاقي. وأنا أحذر المسلمين من تبني هذا المنظور بشأن الحياء والأخلاق بوجه عام لأن القانون الأخلاقي في الواقع ليس قانونًا مستقلاً، بل هو فرض أمرنا الله عزّ وجلّ بتطبيقه. يكمن الحكم الذاتي في اختيارك بأن تتبع أو لا يتبع. لكنّ حقيقة الأمر هي أنك لا تملك الاختيار فيما يتعلق بماهية المعايير الأخلاقية، ومع ذلك، فإن وصف كالهون للمعايير الأخلاقية الناضجة يؤدي دوراً حاسماً في التربية الأخلاقية الإسلامية التي أُمرنا في إطارها أننا نتخذ موقفًا حاسمًا أمام النقد الغير مبرر.[11]
استنادًا إلى الموقف الإسلامي، ينطوي الوجه الثالث للحياء على حياء المرء من نفسه، حيث تخلق التربية الأخلاقية ما يسميه القرآن الكريم “النفس اللوامة”. فالمسلم الذي تربى تربية أخلاقية والذي بدأت بوصلة أخلاقه في الانحراف سيطوّر هذا النوع من النفس وسيشعر بالحياء من التجاوزات حتى عندما يكون بمفرده، هذا الشعور لا يعتمد على وجهات نظر الآخرين لأنه المرء حينئذ يطبق ما يسميه كالهون وآخرون “الرائد الأخلاقي الوحيد”.
تم إدخال النموذج الأصلي للرائد الأخلاقي الوحيد كحلِ للمشكلة المذكورة أعلاه فيما يتعلق بالاعتماد الفطري للحياء على الآخرين في أداء وظائفه. إن نموذج الرائد الوحيد للأخلاق هو ذلك الشخص الذي بلغ مستوى من الأخلاق يفوق الأخلاق في مجتمعه المحيط به. والمعضلة التي يقع فيها هذا المرء هو أنه إذا تعامل مع الناس من حوله وفقاً لمستواهم الأخلاقي، فسيشعر – من الناحية المثالية – بالحياء داخل نفسه لأنه لم يناصر معيار العدل الذي يتبعه، ومع ذلك، فإنه لن يشعر بأي لوم ممن يحيطون به. من ناحية أخرى، إذ تعامل مع الناس وفقًا لفهم المرء الأخلاقي المستنير، فسيعيش المرء في سلام مع نفس لأنه ناصر مُثله العليا، لكنه – من الناحية الأخلاقية – سيلاقي النقد من المجتمع الأوسع نطاقًا. إذن فما هو الحل؟
إذا ما نظرنا إلى جميع رسل الله تعالى، يمكننا أن نستنتج بسهولة أن التوجهات التي ألهموا بها مجتمعاتهم كانت تهدف بوضوح إلى إحداث ثورات أخلاقية داخل تلك المجتمعات، حيث سعت التغييرات الملهمة التي جلبوها إلى تقويم بوصلة الأخلاق الجماعية؛ فالشمال أصبح جنوبًا والجنوب شمالًا. عندما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من عمه، الذي كان يرجو النبي إن يتوقف عن تغير الأعراف الاجتماعية والسلام السائد في المدينة، فقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ببساطة أنه غير قادر على التوقف، كان محمد ﷺ رائدا للأخلاق، فقد كان هو الأمين الوحيد على تطبيق معيار جديد من الملاءمة، وهو معيار أخلاقي تجاوز بكثير المعايير القائمة في مجتمعه. ولقد رآه الكثيرون على أنه مثال للشر ،جاء ليفسد الشباب في عصره. مع ذلك، نرى أنه – مع ذلك – تعامل مع الناس وفقًا للمعايير الجديدة التي أُنزلت إليه. كان حياؤه من الله عزّ وجلّ أكبر من حيائه من نفسه، وفي معظم الأحيان، لم يكن هذا الحياء مبنيًا على نظرة الناس له، بل كان الحياء أمام الناس هو في سبيل ما تحمله من أجل تنفيذ أمر الله. أقول “بالنسبة للجزء الأكبر”، بأنه هناك أمرًا بالغ الأهمية، مرتبط بنا حسب العديد من الرواة، لا يخبرنا عن حساسية النبي نفسه، بل ردة فعله لكونه في حضرة شخص لديه أيضًا شعور شديد بالحياء. فعن السيدة عائشة (رضى الله عنها)، زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه قال محمد ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة”.
إن هذا الرواية المتعلقة بالطبيعة النسبية لحياء النبي صلى الله عليه وسلم وعلاقته ببيئته تقودنا إلى الوجه الثاني من الحياء: الحياء الاجتماعي. بالنسبة للبعض، قد ينتاب الروح الجماعية والاستنكار الاجتماعي البالغ في المجتمع المسلم شعور بالاختناق، كمثل صديقي الذي يقوم بإيقاف تشغيل خاصية إنذار الحياد عن المسار نتيجة إنه أصبح مزعجا لا يحتمل . وبالمثل، يشعر بعض الناس بأن الحساسية الأخلاقية والاستنكار الأخلاقي المفرطين في المجتمع المسلم ليس لهما تأثير أخلاقي إيجابي يُذكر، لكن الدور الإيجابي الذي يمارسه الحياء الاجتماعي الذي يشعر به المرء عندما لا تتحقق المثل الأخلاقية لا يقلل من شأن الصلة الأخلاقية للحياء. من الطبيعي أن يدفع الحياء الشخص إلى التشكيك في عاملين مهمين: 1) سبب شعورنا بالحياء؛ و 2) من الذي نقدره بما فيه الكفاية لنشعر بالحياء أمامه. في بعض الأحيان، أود أن أنظر إلى الطرق التي نقود فيها كل يوم، لأنه يبدو أن هناك اختلافاً بين الطريقة التي ننظر بها إلى الأخلاق العملية والطريقة التي ننظر بها إلى البنية الاجتماعية العملية، مثل القوانين التي تحدد سلوكنا على الطريق. يعد “بوق السيارة” هو أكثر الآليات المخزية التي نستخدمها يومياً، عندما نرى أو نواجه مخالفة في قواعد سلوك الطريق، فإن أول وسيلة لتعديل السلوك هي بوق السيارة. يعمل بوق السيارة كأداة تصحيحية قوية لأنه يلفت النظر إلى سوء سلوك السائق، أيا كانت شخصيته، ويعني مدى فشله في الحفاظ على معايير القيادة المتفق عليها.
من الصعب تحقيق هوية أخلاقية جماعية واحدة في إطار دولة قومية واسعة، حيث أجبرت المسلمين المتدينين على تبني معيارين مختلفين علنًا، أحدهما إسلامي والآخر تعددي. وتكمن المشكلة في هذا النهج أن الحياء يعكس هويتك الشخصية، يعكس ذوقك الأخلاقي المثالي، فيجب أن تظل هويتنا ثابتة. إن نظرة العالم التعددية العامة تحط من قيمة الحياء وتحتفي بالفرد. بعبارة أخرى، إن حماية كل سائق وحفظ حقه في القيادة على الطريق بالطريقة التي يراها مناسبة هو الأفضل في نهاية المطاف. فهناك من يرى أن الحياء نمو متقزم وأداة كانت تستخدم قديمًا للسيطرة على الجماهير والإمكانيات الفردية البسيطة. واليوم، كُن أنت القاضي وهيئة المحلفين، بل والجلاد – إذا لزم الأمر. فالمشكلة التي تلي ذلك أنه عندما يُحطُ من قيمة الحياء أو يُشوه تكمن في فقدان الهوية الجماعية والثقة تمامًا. وكما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الأحاديث – الذي ربما يمثل أكثرها تقاربًا فيما يتعلق بالحياء – حيث قال ﷺ “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”.
إن الحقيقة التي تكمن في هذا الحديث هي سبب مهاجمة مفهوم الحياء الأخلاقي ذاته إلى هذا الحد المفرط، ذلك أن أنصار الاسترجاعية المستنيرين يدركون تمامًا القوة الأخلاقية للحياء، ولهذا يشعرون أنه يجب عليهم تحرير البشرية من القيود التي تحول دون استكشافهم إمكانياتهم الحقيقية.
إذا ما نحن أطلقنا العنان للحساسية الأخلاقية بأن تدور حول الهوية فحسب وأن تمنح الحياء تلك القوة لأولئك الذين نتشارك معهم المُثل المشتركة، عندئذ، أتوقع المزيد من تجزؤ المجتمع. وهناك من يرى أن هذا التجزؤ في إطار إنشاء “أماكن آمنة” دينية، حيث يمكن للناس أن يأتوا بشخصياتهم المتأصلة وأن يكونوا في مأمن من الاشخاص المزعجين ممن يحملون الأمة بأكملها إلى هوية أخلاقية واحدة. هذه الأماكن مصممة خصيصًا لخدمة أولئك الذين يشعرون بأنهم على درجة من الاختلاف بالنسبة للمجتمع العام، وأولئك الذين يشعرون بأنهم غير مفهومين من جانب المجتمع العام. لكن هذه الأماكن الآمنة ستصل في نهاية المطاف إلى مفترق طرق حرج، حيث سيشكل أيضًا هوية مشتركة فيما بينهم، كما أنهم سيتفقون – عن قصد أو من دون قصد – على سلوكيات وتصرفات، تُحتمل أو لا تُحتمل، ينتج عنها بطبيعة الحال حياءُ أخلاقيُ متعلقُ بالهوية – وهو الشيء نفسه الذي كانوا يفرون منه. وسيبدأ أعضاء هذه الأماكن الآمنة في النظر إلى أنفسهم على أنهم امتداد للمجموعة وسيشعرون أيضًا بالحياء أمام الأعضاء الآخرين الذين يتشاركون معهم هوية مشتركة. وهكذا، بدا الأمر واضحًا لماذا لا نستطيع طمس الحياء دون طمس الهوية.
إن الصعوبة التي يواجهها المسلمون في أمريكا هي المعيارية المزدوجة للحياء التي يجب عليهم تعلمها للتنقل فيما بين هذين المعيارين – أي أنهم سيتحولون باستمرار بين هويتين أخلاقيتين مختلفتين. إن انعدام النضج الأخلاقي، أو الافتقار إلى التربية الأخلاقية، يسمح للشخص بأن يقع بسهولة ضحية حياء غير مباح وغير مبرر. ومن ثم، يجب أن تعمل التربية الأخلاقية في مجتمعاتنا على إعادة تركيز قيمنا وتعليم أعضاء المجتمع ماهية الانتقاد الذي له قيمة ووزن وكيفية الحفاظ على المُثل الأخلاقية دون دفع الناس بعيداً، ولكن الأهم من ذلك، يجب أن السعي أيضاً إلى الحفاظ على المثالية الأخلاقية الجماعية، لأن هذه المثالية تصوغ هويتنا الأخلاقية الجماعية. وعلينا أن نميز بين أولئك الذين يخفقون في تحقيق المُثل العليا نتيجة خطأ بشري وأولئك الذين يحاولون تغيير هذه الهوية. ويتبلور التجسيد الإسلامي ثلاثي الأوجه للحياء في أجمل صوره في قول مأثور منسوب إلى الإمام الماوردي:
“وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِابْنِهِ: إِذَا دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى كَبِيرَةٍ، فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَاسْتَحِ مِمَّنْ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى الْأَرْضِ وَاسْتَحِ مِمَّنْ فِيهَا، فَإِنْ كُنْتَ لَا مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ تَخَافُ، وَلَا مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ تَسْتَحِي، فَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي عِدَادِ الْبَهَائِمِ”
إذن، كيف نخلق مجتمعًا لا يخنق الأشخاص الذين يخالفون القواعد أو ينسلخون من المُثل العليا؟ هذا المقال جزء واحد فقط من كتابي القادم عن فطنة النبي ﷺ وذكائه. وأنا أدرك أن إطار الذكاء العاطفي الذي ناقشته مطولاً هو الوسيلة التي ننقل بها هذا النموذج الأخلاقي إلى الآخرين، ومن خلال دراسة هذا الجانب من النموذج النبوي للذكاء أو العقل، يتعلم المرء كيفية نقل الفطنة والذكاء الأخلاقي بنجاح عبر الثقافات وعبر الأجيال.
[1] كتاب الفتن، مصنف ابن أبي شيبة، 37277، يَقُولُ “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَسَافَدَ النَّاسُ فِي الطُّرُقِ تَسَافُدَ الْحَمِيرِ
[2]باومان، الأخلاق والتناقض، 1991.
[3] القرآن الكريم، 31:2.
[4] الموطأ، 3358، 687
[5] الماوردي، أدب الدين والدنيا
[6] دان ام. كاهان، “ماذا تعني العقوبات البديلة؟” منتدى “The University of Chicago Law Review” لجامعة شيكاغو،63 (1996)، 591-653.
[7] ويليامز، الحياء والضرورة, ص. 100.
[8]الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص. 396.
[9] مانيون. جيه.، الصلة الأخلاقية بالحياء. مجلة The American Philosophical Quarterly: الإصدار 39 (2002)، صفحات. 73-90.
[10] كالهون سي. “عذرًا، أيها الحياء الأخلاقي” مجلة The Journal of Political Philosophical: الإصدار 12 (2004), صفحات. 127-146.
[11] القرآن الكريم 54:5 “وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ”.